الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{ومن أوفى بعهده من الله}.أجل! ومن أوفى بعهده من الله؟إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن.. كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا} إن الحق لابد أن ينطلق في طريقه. ولابد أن يقف له الباطل في الطريق!.. بل لابد أن يأخذ عليه الطريق.. إن دين الله لابد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده. ولابد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لابد أن يقطع عليه الطريق.. ولابد لدين الله أن ينطلق في الأرض كلها لتحرير الإنسان كله.ولابد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقًا!.. وما دام في الأرض كفر. وما دام في الأرض باطل. وما دامت في الأرض عبودية لغير الله تذل كرامة الإنسان فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء.وإلا فليس بالإيمان: و«من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق». رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.{فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}.استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم لله، وأخذ الجنة عوضًا وثمنًا، كما وعد الله.. وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم لله نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ والله ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت. سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل الله أم في سبيل سواه! والجنة كسب. كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذه الطريق أو ذاك!ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش لله. ينتصر- إذ انتصر- لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه. ويستشهد- إذا استشهد- في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة. ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة- أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة.إن هذا وحده كسب. كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة.. فإذا أضيفت إلى ذلك كله.. الجنة.. فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم فيه وذلك هو الفوز العظيم}.ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية: {وعدًا عليه حقًا في التوراة والإنجيل والقرآن}.فوعد الله للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور.. وهو لا يدع مجالًا للشك في إصالة عنصر الجهاد في سبيل الله في طبيعة هذا المنهج الرباني؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري- لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه- ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي، يحمي نفسه بالقوة المادية؛ ويقاوم دين الله وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية الله وحده للعباد، وتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد. كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد.. ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في الأرض لتحقيق إعلانه العام بتحرير الإنسان أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية؛ والتي تحاول بدورها- في حتمية لافكاك منها- أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد!فأما وعد الله للمجاهدين في التوراة والإنجيل.فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان..إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما الله على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة.. وهو قليل.. أضيف إليه الكثير!ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين، لنصر إلههم وديانته وعبادته! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم لله سبحانه وتصورهم للجهاد في سبيله.فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد.. ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها- بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم!- وقبل ذلك بشهادة الله سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.والله سبحانه يقول في كتابه المحفوظ: إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن.. فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال!إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن. كل مؤمن على الإطلاق. منذ كانت الرسل، ومنذ كان دين الله..ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال؛ إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال. والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:{التائبون العابدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله}.{التائبون}. مما أسلفوا، العائدون إلى الله مستغفرين. والتوبة شعور بالندم على ما مضى، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب، وعمل صالح يحقق التوبة بالفعل كما يحققها بالترك، فهي طهارة وزكاة وتوجه وصلاح.{العابدون}. المتوجهون إلى الله وحده بالعبادة وبالعبودية، إقرارًا بالربوبية.. صفة هذه ثابتة في نفوسهم تترجمها الشعائر، كما يترجمها التوجه إلى الله وحده بكل عمل وبكل قول وبكل طاعة وبكل اتباع. فهي إقرار بالألوهية والربوبية لله في صورة عملية واقعية.{الحامدون}. الذين تنطوي قلوبهم على الاعتراف للمنعم بالنعمة، وتلهج ألسنتهم بحمد الله في السراء والضراء. في السراء للشكر على ظاهر النعمة، وفي الضراء للشعور بما في الابتلاء من الرحمة.وليس الحمد هو الحمد في السراء وحدها، ولكنه الحمد في الضراء حين يدرك القلب المؤمن أن الله الرحيم العادل ما كان ليبتلي المؤمن إلا لخير يعلمه، مهما خفي على العباد إدراكه.{السائحون}. وتختلف الروايات فيهم. فمنها ما يقول: إنهم المهاجرون. ومنها ما يقول: إنهم المجاهدون. ومنها ما يقول: إنهم المتنقلون في طلب العلم. ومنهم من يقول: إنهم الصائمون.. ونحن نميل إلى اعتبارهم المتفكرين في خلق الله وسننه، ممن قيل في أمثالهم في موضع آخر: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك...} فهذه الصفة أليق هنا بالجو بعد التوبة والعبادة والحمد. فمع التوبة والعبادة والحمد يكون التدبر في ملكوت الله على هذا النحو الذي ينتهي بالإنابة إلى الله، وإدراك حكمته في خلقه، وإدراك الحق الذي يقوم عليه الخلق. لا للاكتفاء بهذا الإدراك وإنفاق العمر في مجرد التأمل والاعتبار. ولكن لبناء الحياة وعمرانها بعد ذلك على أساس هذا الإدراك..{الراكعون الساجدون}. الذين يقيمون الصلاة ويقومون بالصلاة كأنها صفة ثابتة من صفاتهم؛ وكأن الركوع والسجود طابع مميز بين الناس لهم.{الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر}. وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع؛ ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه.. ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم؛ وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده، وشريعة الله وحدها هي الحاكمية فيه، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولًا إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم. والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولًا إلى النهي عن المنكر الأكبر. وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله.. والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة. فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي. ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!{والحافظون لحدود الله}. وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس.ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها.. ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم. ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله؛ وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع؛ ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به الله.. والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع. ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه.. كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته. وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح. وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته. وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله. وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك..هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسوله ورسالاته. قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله؛ وقتل لأعداء الله الذين يحادّون الله؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال.وليست الحياة لهوًا ولعبًا. وليست الحياة أكلًا كما تأكل الأنعام ومتاعًا. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة.. إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله.. ثم الجنة والرضوان..هذه هي الحياة التي يدعى إليها المؤمنون بالله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} وصدق الله. وصدق رسول الله..والمؤمنون الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، أمة وحدهم، العقيدة في الله بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة. وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة. وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشاه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه؛ وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها. والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها- ولو كانوا أولي قربى- بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة:{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}.
|